ترميم الرخام التراثي: فن وعلم إعادة إحياء المباني التاريخية
نُشر في 27 يوليو 2024

ترميم الرخام التراثي: فن وعلم إعادة إحياء المباني التاريخية
عندما نتحدث عن الرخام في المباني التاريخية، القصور الأثرية، أو المساجد القديمة، فإننا لا نتحدث فقط عن حجر بناء، بل عن قطعة من التاريخ. كل خدش، كل بقعة، وكل تآكل يروي قصة. لذلك، فإن عملية ترميم هذا النوع من الرخام تختلف جذريًا عن جلي أرضية فيلا حديثة. إنها عملية دقيقة تتطلب مزيجًا من الخبرة الفنية، المعرفة العلمية، والاحترام العميق للتراث.
التحديات الفريدة لترميم الرخام التراثي
- الحفاظ على الأصالة (Patina): مع مرور الزمن، يكتسب الرخام "باتينا" أو طبقة من التعتيق الطبيعي التي تمنحه طابعًا تاريخيًا فريدًا. الهدف ليس جعل الرخام يبدو "جديدًا تمامًا"، بل تنظيفه وترميمه مع الحفاظ على هذه الروح الأصيلة.
- التعامل مع أنواع الرخام النادرة: العديد من المباني القديمة استخدمت أنواعًا من الرخام لم تعد تستخرج اليوم. هذا يعني أن أي خطأ في الترميم قد يكون كارثيًا ولا يمكن إصلاحه.
- الأضرار الهيكلية: المشاكل غالبًا ما تكون أعمق من مجرد خدوش. قد تكون هناك شقوق، قطع مفقودة، أو تآكل ناتج عن قرون من الزمن وعوامل الرطوبة والأملاح.
- الترميمات السابقة السيئة: قد يضطر المرممون للتعامل مع طبقات من الشمع، أو مواد كيميائية قاسية، أو محاولات إصلاح غير احترافية تمت على مر السنين.
تقنيات متخصصة في ترميم الرخام
تتجاوز العملية مجرد الجلي والتلميع، لتشمل تقنيات متخصصة:
1. التنظيف الدقيق (Micro-Cleaning)
قبل أي شيء، يجب تنظيف الرخام بعناية فائقة.
- التنظيف بالبخار المضبوط: استخدام بخار بدرجة حرارة وضغط متحكم بهما لإزالة الأوساخ المتراكمة دون الإضرار بالسطح.
- الكمادات الكيميائية (Poultices): تطبيق معاجين خاصة على البقع العميقة (مثل بقع الصدأ أو الزيت). يقوم المعجون بسحب البقعة ببطء من داخل مسام الحجر.
- التنظيف بالليزر: في الحالات الحساسة جدًا، يمكن استخدام الليزر لإزالة طبقات الأوساخ بدقة ميكروسكوبية دون لمس سطح الرخام نفسه.
2. الإصلاح والترقيع (Repair and Patching)
للتعامل مع الشقوق والقطع المفقودة.
- الحقن بالإيبوكسي: يتم حقن الشقوق الدقيقة براتنجات الإيبوكسي الشفافة لتقوية الحجر ومنع تفاقم الشق.
- التلبيس (Dutchman Repair): عندما تكون هناك قطعة مفقودة، يتم قص قطعة جديدة من نوع رخام مطابق تمامًا (إن وجد) أو رخام مشابه جدًا، ويتم نحتها بدقة لتناسب الفجوة ولصقها بمواد خاصة. يتم بعد ذلك تنعيمها لتندمج مع السطح المحيط.
- المعجون الملون: يتم خلط غبار الرخام مع راتنجات ملونة لإنشاء معجون يستخدم لملء الثقوب الصغيرة والشقوق، مع مطابقته للون وعروق الرخام الأصلي.
3. إعادة التسطيح (Resurfacing)
هذه هي عملية الجلي، ولكنها تتم بحذر شديد.
- استخدام الألماس فقط عند الضرورة القصوى: يتم تجنب الجلي العميق قدر الإمكان للحفاظ على أكبر قدر من الحجر الأصلي.
- التنعيم اليدوي: في المناطق المنحوتة أو الزخرفية، قد يتم التنعيم يدويًا باستخدام أدوات خاصة.
- الوصول إلى اللمعان الطبيعي: الهدف هو تحقيق لمعان "الساتان" أو "شبه اللامع" الذي كان شائعًا في العصور القديمة، بدلاً من لمعان المرآة المصطنع الذي يسببه الكريستال.
دراسة حالة: قصر تاريخي
تخيل ترميم أرضية رخامية في قصر يعود للقرن التاسع عشر. قد يجد المرمم:
- تآكلًا في الممرات الرئيسية أكثر من الغرف الجانبية.
- بقع صدأ تحت أرجل الأثاث المعدني القديم.
- شروخًا دقيقة بالقرب من المداخل بسبب اهتزازات الأساسات.
- قطعًا مفقودة في الزوايا.
خطة العمل لن تكون مجرد "جلي الأرضية"، بل ستكون:
- تنظيف الأرضية بالكامل باستخدام كمادات كيميائية على بقع الصدأ.
- حقن الشروخ الدقيقة بالإيبوكسي.
- صنع قطع "تلبيس" دقيقة للزوايا المكسورة.
- تنعيم خفيف جدًا للممرات باستخدام أقراص ألماس ناعمة لتوحيد السطح.
- تلميع نهائي باستخدام بودرة تلميع طبيعية لتحقيق لمعان دافئ وأصيل.
- تطبيق طبقة حماية متخصصة تسمح للحجر بـ "التنفس".
خاتمة
ترميم الرخام التراثي هو حوار دقيق مع الماضي. إنه يتطلب صبرًا، دقة، وفهمًا عميقًا لخصائص الحجر وتاريخ المبنى. عندما يتم بشكل صحيح، فإنه لا يعيد الجمال للرخام فحسب، بل يضمن الحفاظ على هذا الجزء من تراثنا المعماري للأجيال القادمة.